احياء الخطارات…كحل ايكولوجي لمواجهة ندرة المياه بالواحات .
في عز الجفاف وندرة المياه و تفاقم اثار احترار الارض، لا تزال بضع منشآت ماءية تدعى “الخطارات ” تروي ضما الانسان و المكان بواحات الجنوب الشرقي للمغرب ،دون ان يشفع لها صمودها هذا في إثارة حرقة الاسءلة لدى الباحثين و المهتمين و المسؤولين عن سر هذا الصمود ؛ و مدى امكانية الاستفادة من هذا السر لدعم خطة احياء باقي “الخطارات” من اجل وقف استنزاف ما تبقى من الفرشة الماءية و الكف عن حفر الابار و الاثقاب الماءية و ربما الاستعاضة نهائيا عن عمليات الضخ العصرية المكلفة و الملوثة . فما هي ياترى هذه “الخطارات ” التي استطاعت الصمود في ظل الظروف المتطرفة التي يعيشها كوكب الارض ككل ؟؟ و كيف نشأت و لاي غرض ؟؟ و كيف استمرت لغاية اليوم ؟؟ و هل هناك امل لاعادة احياءها ككل لتفادي الاسوا خلال السنين المقبلة ؟؟
* مفهوم الخطارات :
تقنية “الخطارات ” تعد بحق معلمة تاريخية واقتصادية واجتماعية وتراثا إيكولوجيا للدول الصحراوية و شبه الصحراوية، نظرا لعبقرية عملها في نقل المياه وما تتيحه من نظام عادل لتوزيع الماء، علما أن الفضل في تواجد واحات النخيل بمنطقة الجنوب الشرقي يعود لهذا النظام التقليدي لتعبئة ونقل المياه من المرتفعات الى الحقول المنخفضة ، و هي تعبر بحق عن مهارة معرفية بشرية نادرة لدى ساكنة الواحات تستحق التثمين و الحفظ و الاقتداء ، اتخذها القدماء من ساكنة الواحات لجلب الماء من باطن الارض بمنطقة عالية الى سطحها لسقي اراضيهم الزراعية عنها اعتمادا على قوة الجاذبية ، و هي عملية مدروسة بدقة تتخذ مخططا هندسيا تقليديا يقارب بدقة اتجاه مجرى المياه لدحرجته عبر قناة افقية تمتد عبرها سلسلة من الابار يتفاوت عمقها و يتناقص من الاعلى نحو الاسفل ،و بفضلها خلقت الواحات و ازدهرت و امتلأت بالنخيل و الاشجار المثمرة و عمر بها الملايين من الناس لقرون خلت .
و تسمية “الخطارات” متداولة في اللسان المغربي الرسمي و الدارج منذ مئات السنين ،و تستعمل بصيغة الجمع (خطارات و ليس خطارة ) لان لفظ “خطارة” بصيغة المفرد تطلق لغة على “حظيرة الابل ” ، و في الجزائر الشقيقة يطلق على تقنية الخطارات تسمية “الفوكارة”، في حين يطلق عليها ببعض دول الخليج العربي (كسلطنة عمان والسعودية و اليمن …) “بالأفلاج” ،و هي كلها تسميات لمسمى واحد .
• “الخطارات ” تاريخ عريق و ممتد :
“للخطارات” تاريخ عريق فهي واحدة من أعرق أنظمة السقي التقليدية والذكية التي عرفتها البشرية بعدة بلدان صحراوية ، ويعتقد اغلب الباحثين و المؤرخين انه من الصعب الوقوف عند التاريخ الحقيقي لظهورها على المستوى العالمي، ولا معرفة مبدعها الأول، فهي تعود لآلاف السنين في بلدان مختلفة ( سلطنة عمان ،إيران، السعودية، اليمن، الجزائر،العراق، المغرب…)؛ فنحن إذن بصدد تقنية قديمة ارتبط تواجدها بحضارات إنسانية مختلفة، اغلبهم يعتقدون جازمين أن نشأتها كانت في شبه الجزيرة العربية في العصر الحديدي ،بحيث أن اصولها التاريخية بدولة “سلطنة عمان مثلا -حيث تعرف ب”الافلاج “- تعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد ،و هي واحدة من اهم و أبرز المعالم الحضارية فيها و هي مسجلة هناك كتراث انساني عالمي بمنظمة اليونسكو ، و منها توزعت على بقية دول العالم ، ومن الباحثين من يقول إنها فارسية المنشأ (ايران) و أنها ظهرت قبل ميلاد المسيح ، ثم انتقلت إلى العالم الشرقي والغربي ،و اخرون يعتقدون بنشأتها في بلاد الرافدين (العراق) أثناء حكم حمورابي (795 – 175) قبل الميلاد ، قبل انتقالها إلى بلاد فارس والجزيرة العربية و منها لشمال افريقيا ،و كلها روايات متقاربة على العموم .
أما بالمغرب فيمتد تاريخها لأزيد من ألف سنة تقريبا و تتواجد بكثرة بمنطقتي الجنوب الشرقي و مراكش- الحوز ،و تفيد المصادر التاريخية بأن أول خطارة بالمغرب انشأت ب” ضواحي مراكش” على عهد المرابطين، مما مكن ساكنة مراكش انذاك من التزود بالماء بشكل مستمر وتوفيره بشكل كاف من أجل النشاط الفلاحي أولا و الاستقرار المديني/الحضري ثانيا ، هذا التحول الذي أحدثته “الخطارات” كان بمثابة محفز أساسي لتحول “المدينة الحمراء” الى عاصمة للمغرب الموحدي آنذاك . و بفضل العلاقات التجارية الوطيدة لأهل مراكش مع اهل الجنوب الشرقي انتقلت هذه التقنية تباعا لأغلب مناطق درعة تافيلالت و طاطا و كلميم و غيرها ، أما بمنطقة درعة تافيلالت فان أقدم خطارة في المنطقة تعود إلى القرن ( 16 ميلادية ) و بالضبط بإقليم سجلماسة (الراشيدية) حسب الباحث و المؤرخ “حسن حافظي” ، يبلغ عددها بمنطقة درعة تافيلالت أزيد من 1000 خطارة، لا تزال ناشطة منها حوالي 120 خطارة فقط والسبب يرجع للعوامل المناخية من جهة، ولتراجع دور الساكنة الجماعي في الحفر والصيانة الخطارات من جهة ثانية، مما أدى إلى ضياع العديد منها، والبعض الآخر مهدد بالضياع إذا لم يتم التدخل من أجل الحفاظ على هذا الموروث الفريد.
* شروط نشوء الخطارات /اسباب استمرارها :
بالدول و المناطق الصحراوية و شبه الصحراوية عادة ما تتواجد المسطحات الترابية الخصبة (السهول) بعيدا عن السفوح الجبلية الغنية بالمياه ،و بفعل عدم امكانية الاعتماد على مياه الأمطار لري المزروعات المختلفة على طول السنة ، و بفضل التركيبة الجغرافية المزدوجة لمناطق الواحات (جبال/ صحراء ) اي وجود تضاريس جبلية في الاعالي تجمع الثلوج و الامطار في قممها اثناء مواسم التساقط ،فتخزنها على اعماق قريبة ثم تشرع في توزيعها وفق نظم طبيعية متوازنة خلال باقي الفصول على اودية سطحية و اخرى باطنية ،فتجري الأودية السطحية خلال مواسم الفيض و الامطار إلى المنخفضات الترابية (الهضاب و السهول و الكثبان ) دون ان يتمكن المزارع الواحي من الاستفادة منها قدر حاجته لها بفعل موسميتها و محدوديتها الزمنية و عدم انتظامها ايضا ،و في المقابل كانت الأودية الباطنية اكثر استدامة و حفظا للمخزون المائي من نظيرتها السطحية ،لكل ذلك برزت الحاجة ماسة للتفكير في كيفية استغلال المخزون الباطني المستدام و المتجدد بدل الاكتفاء بالمياه السطحية الموسمية التي لا تسمن و لا تغني من جوع ،فكانت النتيجة من كل ذلك ظهور تقنية “الخطارات ” كوسيلة للري المستدام و الذكي ايضا . غير أن نجاح هذه التقنية بدوره كان رهنا بتوفر ثلاث شروط أساسية هي :
1_ وجود انحدار معقول في التضاريس (ثناءية جبلية/صحراوية) و تتبع اتجاه مجرى المياه (قوة الجاذبية )،فتقنية “الخطارات” لا تنجح بالمجال الجبلي المحض و لا بالمجال الصحراوي المحض .
2_تواجد المياه على عمق قريب او متوسط عن سطح الأرض ،لغياب امكانات الحفر على اعماق كبيرة لدى القدماء .
3_توفر تربة صلبة و متماسكة نسبيا وغير قابلة للرشح حتى لا تتعرض آبار الخطارة للهدم و الانجراف .
• احياء “الخطارات ” … هل تنجح الفكرة ؟؟
هل من امكانية للإحياء “الخطارات ” اذا توفرت الامكانيات اللازمة لذلك ؟؟؟ هكذا طرحت السؤال على “با علال ” و هو بالمناسبة عيمل – أي مسؤول محلي عرفي- لساقية الدوار و خطارته منذ ازيد من 25 سنة ،فكان جوابه كالاتي : ” اذا توفرت الاراضي اللازمة لتمديد طول الخطارات من جهة الرأس اي منبع الماء فالأمر ممكن ،ف”الخطارات” كالآبار تماما يزيد مستوى عمق الماء فيها و ينقص بحسب التغيرات المناخية (حالة الجفاف او حالة الفيض) ” ،و شخصيا احبذ الاخذ برأي “اصحاب الاختصاص “او مانسميه نحن في لهجتنا المحلية “امروكا IMAROUGGA” في هذا الموضوع و الذين هم في الاصل ليسو سوى أمثال “العيمل با علال ” و جيله ممن تكبدوا عناء حفر تلك الخطارات و هندستها و الاشراف على توزيع مياهها بين الفلاحين و المزارعين على مدى عشرات العقود، دليلهم في هذا الكلام (امكانية احياء الخطارات) أن عددا منها – رغم قلته- لازال ناشطا لحدود اليوم رغم تعاقب سنوات الجفاف و احتدام اثار التغيرات المناخية و انتشار المضخات الهيدروليكية بشتى انواعها ،و ان عددا اخر منها بمجرد توالي تساقط الامطار لبضع ايام أو نيف تعاود الحياة فتجري مياهها من جديد ،اذن فإحياء الخطارات ليس مستحيلا و انما رهن بتوفر إمكانات تمديدها في اتجاه منابع المياه ،فالخطارات التي تبلغ مسافتها الطولية كيلومترين او تلاث ان توفرت امكانية تمديدها لكيلومتر او اكثر لا محالة ستعود مياهها من جديد و هكذا دواليك ،تماما كما هو الامر بالنسبة للآبار التي كانت توفر الماء من عمق عشرة أمتار (تزيد او تنقص ) فباتت بفعل انتشار المضخات المائية و الجفاف لا توفره الا من عمق عشرين او تلاثين مترا و اكثر . فالأمر ممكن من وجهة نظر الرعيل الاول من فلاحي الواحة ،خصوصا أن الخطارات في نهاية الامر ليست سوى سلسلة من الابار المتصلة بقناة ،و هذا في نظري كاف للاقتناع بجدوى هذه المبادرة و مناقشة حيثياتها بشكل جدي .
ان أول ما عابه “امروكا IMAROUGGA” من أمثال “العيمل با علال ” وهم “اصحاب الاختصاص الحقيقيون ” في موضوع الخطارات أن مؤسسات الدولة الرسمية المختصة و وزارة الفلاحة على وجه الخصوص و طيلة تلاثة عقود لم تعمد يوما للإنصات لهم و لا الاخذ بوجهة نظرهم في الموضوع ،و كثيرا ما كانت تعمد الى اخراج مشاريع لإصلاح السواقي و العيون و الخطارات بمنطق “الاسمنت و الحديد فقط” لاغير ،اعتمادا على استشارة تقنيين و مهندسين لم تطأ اقدامهم قط تراب الواحات و لا شربوا من مائها قطرة واحدة ، و الخطارات بعد ان تم تبليطها بالإسمنت و الحديد فقدت جوهرها كروضة من رياض الحياة البرية و التنوع البيولوجي بالواحات ،كونها ليست مصدرا لمياه السقي و الشرب فقط بل موردا و ملجأ لعدد كبير من الكائنات الحية كالطيور و الاسماك و السلاحف و القنافذ و حتى الارانب… الخ ،و تدريجيا بعد عمليات “الاصلاح” تلك ارتفعت درجة حرارة المحيط الذي ينبع و يجري فيه الماء بفعل الجو الاسمنتي الساخن بباطن الخطارات ،فازداد تبخر المياه و قل جريانها ،ثم توالت سنوات الجفاف فنزلت مستويات الماء تحت الارض و جفت المنابع و عجزت المنابع البديلة عن التجدد بفعل اغلاقها بالإسمنت فكانت النتيجة ان خرجت تلك الخطارات نهائيا من الخدمة ، و تم تعويضها بحفر ابار جديدة و تزويدها بمضخات هيدروليكية فاقمت ازمة ندرة الماء بفعل الفوضى و المبالغة في الضخ ،الشيء الذي انعكس سلبا على حياة تلك الخطارات فتحولت بفعل تلك “المشاريع التخريبية” من “سراديب” تعج بالحياة و الماء و الخضرة الى “مقابر اسمنتية مطمورة ” تحت التراب تسكنها الفئران و الافاعي ، و في حالات كثيرة اخرى لم يتم اغلاق منابع الخطارات و لكن في المقابل ارتكبت اخطاء جسيمة في احترام درجة انحدار الارض بقناة نقل الماء الافقية (و تسمى العصى بعرف اهل السواقي) فانحبس الماء و عاد ادراجه بالاتجاه المعاكس و في الحالتين معا كانت النتيجة عكس مجرى الحياة .اذن لماذا لا يتم الاستماع هذه المرة لأصحاب الاختصاص “امروكا IMAROUGGA” في موضوع احياء الخطارات بدل “مكاتب الدراسات” التي لم تجلب لواحاتنا سوى الجفاف و الخراب ؟؟
* الخطارات كحل ايكولوجي لندرة الماء و ليس كمزارات للبكاء على الاطلال :
يحسب لمؤسسة “مفتاح السعد للرأسمال اللامادي للمغرب ” توجيه الانظار نحو موضوع “الخطارات” و فتح النقاش حولها بشكل عام ،كيف لا و هي أول مؤسسة منظمة انجزت بحثا اكاديميا قيما في الموضوع سنة 2014 ،
صدر في ثلاث لغات (عربية، وفرنسية، وإنجليزية) مرفق بمجموعة من الصور التوضيحية، للتعريف بالخطارات بالمغرب و ما لها من حمولة تاريخية ومعرفية،بادرت لطرحه بقوة ابان انعقاد مؤتمر الامم المتحدة للتغيرات المناخية (كوب 22 COP) بمراكش خلال الفترة ما بين 7 و18 نوفمبر 2016 ،و ذلك في اطار سعيها المشروع الرامي لتسجيل “الخطارة” كتراث إنساني دولي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو ) ،لكن هذا المسعى وحده لا يكفي ،لان النقاش الحقيقي في رأيي يجب ان ينصب على مطلب تثمين الخطارات و تاهيلها للمساهمة الفعلية في مواجهة مشكلات الجفاف ،اي من باب تنويع الاقتراحات و الحلول لمشكلات ندرة المياه و ليس كسعي لتوسيع دائرة الماثر التاريخية و المزارات السياحية ،ف”الخطارات ” التي كانت سببا في خلق هذه الواحات و كينونتها و استقرار الانسان بها لمءات السنين ،لم نياس بعد من امكانية احياءها لنطلب تحويلها لمجرد موروث حضاري و طبيعي لساكنة الواحات ،و لا ينبغي لها ان تتحول لاطلال تاريخية تؤتث دلاءل المندوبيات السياحية من اجل رفع نسبة السياح او تسجيل الافلام الوثائقية حولها ،خصوصا و انه حتى يومنا هذا لازالت امكانية احيائها واردة و قد تحقق ما عجزت عن تحقيقه عشرات المخططات و البرامج الحكومية السابقة في مجال التنمية المستدامة و ضمان استقرار ساكنة الواحات بمواطنها و الحد من هجرتهم نحو المدن ،و الحال انه حل من الحلول التي لا يمكن استبعادها بالمطلق ما دامت نظيرتها بعدد من المناطق ناشطة و تساهم بقوة في مواجهة اثار الجفاف و ندرة المياه .
بقلم : رشيد سليمـان.